لكن سوريا أبعد من أن تكون آمنة. والعودة إليها تعني لمعظم الشبان السوريين التجنيد القسري في جيش الحكومة. فبعد ثلاثة أيام من وصول ناصر، صهر ريان، إلى سوريا اختُطف من منزل والديه. تقول ريان (نورده بالفصحى) "كانا [ناصر وزوجته مريم] مرعوبين يوم مغادرتهما، لكن ناصر كان متأكدا من أنه كان سيجد وظيفة آمنة حال عودته". لم يكن أحد يعلم بما حدث لناصر حتى مر شهر، عندما أرسل صورته وهو على قيد الحياة، لكنه كان يرتدي بذلة عسكرية، ويقف في معسكر تدريبي حكومي في دمشق.
وفقا للسلطات السورية، يجب منح الرجال العائدين من المنفى فترة عفو مدتها ستة أشهر قبل تجنيدهم. لكن هذا الوعد غالبا لا ينفذ لأن النظام في حاجة ماسة إلى الشباب من أجل القتال في جيشه المستنزف والمنهك من المعارك. وخلال ذلك الشهر، أنجبت مريم طفلتها الأولى شام. وهي تعيش الآن مع والدة ناصر بجانب منزلهم الذي لم يتضرر من القصف.

على مقربة من مخيم ريان، يستقبلنا الشيخ أحمد ووالده وليد ذو الـ74 عاما في الطابق الأرضي البارد بمسجد محلي. الهواء ثقيل عندما تناولنا فنجان الشاي الذي يقدم عادة للترحيب. عاد وليد هربا إلى لبنان بعد عودته إلى سوريا في تموز/يوليو 2018. وكان قد سجل نفسه أيضا كعائد طوعي لدى الأمن العام اللبناني. وعند عودته إلى حمص، كان الشيخ أحمد يعتقد أن عمر والده سيضمن الأمان. لكنه كان مخطئا.
"بكلمات مختارة بعناية، تحدث الشيخ أحمد عن أسلوب عمل نظام الابتزاز المحكم (نورده بالفصحى) "عندما أدركنا أنه اختفى، اضطررنا لدفع 500 دولار لضابط عند نقطة التفتيش لمجرد معرفة السجن الذي أخذوه إليه". "يحدد القاضي ثمنا لكل سجين محتجز حسب التهمة وحسب معرفته بثروة أسرة السجين". استطاع الشيخ أحمد جمع 5000 دولار من العائلة والأصدقاء في لبنان وإرسال المبلغ إلى القاضي في دمشق من خلال شخص ثقة. وأوضح (نورده بالفصحى) بأن "نصف المال للجنرال المسؤول عن السجن، والنصف الآخر للقاضي. هذه طريقة النظام لمكافأة أصدقائه".
على الرغم من سنه، تم احتجاز وليد 50 يوما وتعرض للتعذيب بشكل متكرر، وحُبس في زنزانة صغيرة مع عشرات المعتقلين الآخرين. كان على أسرته دفع 200 دولار أخرى لإصدار خطاب رسمي يعلن فيه أن والده بريء من جميع التهم الموجهة إليه. يتساءل الشيخ أحمد (نورده بالفصحى) "كيف يمكننا أن نثق في النظام لكي نعود إلى البلد عندما نراه يعتقل رجلا مسنا أكمل عملية التفتيش وأعطاه الأمن السوري ضمانات تكفل سلامته؟" قصته ليست غريبة. فقد تولت الشبكة السورية لحقوق الإنسان (SNHR) وهي مجموعة رصد تسجل حالات الاحتجاز والاختفاء التعسفيين في جميع أنحاء سوريا، توثيق 1916 حالة اعتقال طالت لاجئين عائدين إلى الأراضي الخاضعة للنظام (بما في ذلك 219 طفلا و157 امرأة). في ذلك الوقت، ظل 784 رهن الاحتجاز، فيما تعرض 638 للاختفاء القسري. وورد أن خمسة عشر شخصا ماتوا بشكل مباشر نتيجة التعذيب على أيدي النظام السوري بعد اعتقالهم.

خوفا من أن يسمح القانون السوري رقم 10 للنظام بالاستيلاء على ممتلكاته إذا لم يسجل ملكيته، كان الشيخ أحمد يأمل في أن يستطيع والده تسجيل منزل عائلته في حمص. "لقد نجا من القصف بمعجزة. أخذت الحكومة كل شيء مني، ولم أكن أريد أن أفقد منزلي أيضا". منذ أن استعاد النظام السوري معظم البلاد، أصدر قوانين جديدة تسمح للسلطات بمصادرة الممتلكات وإتاحة مساحة كبيرة لمشاريع بالمليارات لإعادة الإعمار، على أمل جذب الاستثمارات الأجنبية التي هو في حاجة ملحة إليها. تم تخطيط هذه المشاريع في الأحياء السنية الأفقر مثل باب عمرو في حمص والحيدرية في حلب، وهي المحافظات المرتبطة بالمعارضة، وهذا دليل على أن إعادة الإعمار وإعادة التوطين تهدف بشكل استراتيجي إلى تفتيت المجتمعات المحلية المعادية النظام.

يوضح المحامي السوري أنور البني من مكتبه في وسط برلين "سوريا ليست مكانا آمنا لأي شخص للعودة اليوم، وهذا أمر لا شك فيه". يرأس السيد البني المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، وقد كرس السنوات الخمس الأخيرة من حياته لإثبات هذا الطرح عبر إبلاغ وزارتي الداخلية والخارجية الألمانية وكذلك قضاة المحاكم الأوروبية بالمجازفات والأخطار التي يواجهها السوريون الذين يعودون.
قابلناه في الذكرى الخامسة لوصوله إلى ألمانيا. هرب من سوريا في عام 2014، بعد أن أمضى أربع سنوات في السجون الحكومية بسبب عمله في الدفاع عن الناشطين السوريين. يقول إن "الحرب ليست ما يخشاه اللاجئون السوريون، بل إفلات قوات الأمن من العقاب هو ما يجعل الحياة في سوريا مستحيلة". أنور البني من المحامين الذين عملوا على ملفات قيصر، وهي سلسلة من الوثائق تشمل قرابة 55000 صورة لأدلة الطب الشرعي على تعذيب وتجويع وموت المعتقلين داخل السجون التي تديرها الحكومة السورية. وتوفر هذه الوثائق التي هرّبها إلى أوروبا ضابط سابق لدى النظام يلقب الآن باسم "قيصر"، الأدلة التي تُستخدم في محاكمة واعتقال ضباط النظام ذوي الرتب العالية الموجودين حاليا في أوروبا متخفين في ثوب اللاجئين.
"يقول البني بكلمات يتردد صداها في الغرفة "نحن نعمل على إخبار العالم بدقة عن هوية المجرمين. وحالما يتم تجريم هؤلاء الأشخاص، فلن يتمكنوا من الجلوس على طاولة المفاوضات وتحديد مستقبل سوريا. سيلقى القبض عليهم يوما ما، لكن حتى ذلك الوقت، لا يمكن لأحد أن يتعامل بصراحة مع هؤلاء المجرمين الآن في ظل وجود مذكرة اعتقال أوروبية ضدهم".
ولكن مع إعادة إعمار سوريا المقدرة بمبلغ 400 مليار دولار، فإن عدة جهات فاعلة تعمل اليوم على تقيم إعادة بناء سوريا باعتبارها فرصة تجارية. وما زالت كل من روسيا وإيران، وهما أكبر حليفين للنظام، تعانيان من ضائقة مالية بسبب سنوات من تمويل حرب سوريا. لكن دولا مثل الصين والبرازيل تفكر في استثمارات كبيرة، في حين يرغب لبنان والدول التي تستضيف ملايين اللاجئين السوريين المشاركة في إعادة الإعمار، وذلك لتسهيل عودة العديد من ضيوفها غير المرغوب فيهم.
