FacebookTwitter
découvrir



ولدت حبيبة كشوت في مدينة مشرية، غربي جنوب الجزائر، وغادرت بلادها برفقة عائلتها في 1964 لتستقر في مخيم "ريفزالت" قرب مدينة نيم في جنوب فرنسا، حيث كانت تتواجد عائلات أخرى من الحركى.

وبعد أن قضت تسعة أشهر هناك، انتقلت مع عائلتها إلى مدينة لوديف.

وتقول هذه المرأة التي تهوى الرسم والفنون: "والدي انتقل إلى لوديف في 1965 بعد أن حصل على شقة جديدة في حي المحطة كونه كان متقاعدا في الجيش الفرنسي، ما سمح لوالدتي وأختي الكبرى الالتحاق بالورشة".

وأضافت: "عندما غادرت الجزائر، شعرت بعذاب الرحيل. كنت خائفة لأنني سمعت أمي تقول سنقطع البحار ونذهب إلى مكان آخر. لم نستقل باخرة كمعظم العائلات، بل جئنا على متن طائرة عسكرية هبطت في مطار (مدينة) بيربينيون. كان عمري آنذاك 9 سنوات".

التحقت حبيبة بورشة لوديف لحياكة السجاد في 1976 وعمرها 21 عاما. "كنت أشاهد أختي عبر نوافذ الورشة وهي تعيد رسم أشكال هندسية مختلفة على السجاد. فأعجبت بعملها وتمنيت أن أقوم به. بعد مرور بضعة أيام، قدمت طلبا للحصول على عمل بالورشة فالتحقت بها".

السنوات الأولى من العمل في هذا "المصنع" كانت بمثابة رحلة استكشافية لحبيبة التي تعرفت على نساء جزائريات أخريات وعلى جو يشبه أجواء مدن وقرى الجزائر. لكن وتيرة العمل كانت مرتفعة كما تقول: "كان المسؤولون يطلبون منا حياكة أكبر كمية من السجاد. وتيرة العمل كانت صعبة للغاية. لهذا السبب كنا نطلق على هذه الورشة اسم المصنع".

"كنا لا نذهب إلى المرحاض إلا بعد أن يدق الجرس ولا نأكل إلا في وقت محدد، وكان ممنوعا علينا أن نغادر أماكن العمل"

خلافا للحائكات الأخريات، كانت حبيبة تهتم بالرسم أكثر من النسج والحياكة لأنها تحب الألوان والأشكال الهندسية. وقالت: "لم أحيك عددا كبيرا من السجاد، بدأت النسج في 2005. كنت أحب فقط الرسم والزخرفة، لهذا السبب شاركت في مسابقة بباريس في 1986 ودرست تاريخ الفنون، وفي هذه الفترة تعرفت على صديق رسام وفنان في لوديف، علمني الكثير في هذا المجال".

وبعد إتمامها الدراسة في باريس وحصولها على درجة عليا، عادت إلى لوديف حيث عينها مدير الورشة على رأس فريق من الحائكات.

وتستذكر حبيبة تلك الأيام قائلة: "كل شيء كان يسير بشكل جيد. الموظفات الجزائريات كن فخورات بتعييني مسؤولة عليهن وأشدن بأني كنت أرسم بشكل جيد، ما ساهم بتطوير المستوى الفني للورشة وأصبح أفضل مما كان عليه في السابق. كنا نشعر بالفرحة، حتى المسؤول الذي كان في باريس كان راضيا عن أدائنا".

لكن حياة حبيبة تغيرت ابتداء من عام 1991 بعد نقل الورشة من مبناها القديم الذي كان من الخشب إلى مبنى جديد يتوفر على جميع شروط العمل.

حبيبة كشوت (على اليمين) أمام سجادة تعود لعهد الملك لويس الرابع عشر (صورة لحبيبة كشوت)

فالغريب أن مكتبها ظل مغلقا بانتظار تعيين مسؤول جديد قادم من باريس ليحل في مكانها.

وبحسب حبيبة، فإن "الهدف من المبنى الجديد هو السماح لموظفين من باريس بالالتحاق بورشة لوديف إذ أن ظروف العمل في المقر القديم كانت صعبة للغاية، فكنا لا نذهب إلى المرحاض إلا بعد أن يدق الجرس ولا نأكل إلا في وقت محدد وكان ممنوعا علينا أن نغادر أماكننا. وإذا تأخرنا خمس دقائق في الصباح، فالإدارة تغلق الأبواب ولا تسمح لنا بالدخول". لكن رغم كل هذه الظروف، عملت 33 عاما في الورشة لأنها كما تقول كانت تعشق الرسم وتريد تطوير مهاراتها وتتعلم أكثر.

"لم أنل أي تقدير من الإدارة"

في 2009، غادرت حبيبة ورشة لوديف بعد محاولات عديدة للحصول على منصب مسؤولة القسم، "لكن للأسف هذا المنصب كان دائما مخصصا للفرنسيين الذين يأتون من باريس رغم أنني شغلت هذا المنصب عدة مرات لكن من دون أن أتسلمه رسميا".

وأضافت: "كنت أتقاضى أجرا أدنى مقارنة بالحائكات الأخريات رغم إتقاني لفن الرسم ورغم المسؤوليات الإدارية التي كانت على عاتقي".

وبهدف الترقية في العمل ورفع قيمة الراتب الشهري، شاركت حبيبة خمس مرات في مسابقات في باريس لكنها لم تنجح، ما جعلها تيأس وتفكر في مغادرة الورشة.

وتقول حبيبة: "اليوم أشعر بالغضب إزاء كل ما عشته هناك. فعندما أسمع أن هناك معرض مخصص لورشة لوديف أو كتاب حول الحائكات صدر في الأسواق، أشعر بالإحباط لأن اسمي لا يظهر في المعارض ولا في الكتب، وكأنني كنت شبحا ولم أعمل 33 سنة في هذا المكان. لم أنل أي تقدير من الإدارة".

وواصلت: "لا أفهم لماذا يتحدثون فقط عن السنوات التي تلت افتتاح الورشة وعن وصول فرنسيين إلى الورشة بينما يستثنون كل الأعوام التي كنت أعمل فيها، ولا يتحدثون عن السجاد التي شاركت في حياكته والذي يزين قصر الإليزيه والسفارة الفرنسية في لندن. لا أدري لماذا يروون دائما قصة ورشة لوديف بشكل انتقائي".

وعن السؤال "هل ترغبين في العودة إلى الورشة من جديد؟ أجابت حبيبة: "لقد مكثت فيها سنوات طويلة وكان يجب أن أتركها في وقت أبكر لأنني لم أتعلم أشياء جديدة".

وأعقبت مستدركة: "لكن في الحقيقة تعلمت الكثير حول العلاقات العامة والعلاقات بين الناس. السنوات التي قضيتها في الورشة هي بمثابة علاج بالنسبة لي. فهمت كل المعاناة التي تعرض لها والدي. فهمت الحرب الجزائرية وأشياء أخرى".

"أريد الابتعاد عن الذكريات المؤلمة ولا أريد محو 33 عاما من حياتي"

ألقت المشاكل التي كانت تعاني منها حبيبة في الورشة بظلالها على عائلتها، لا سيما أولادها الذين تأثروا حسب قولها بالأيام الصعبة التي عاشتها. وقالت: "كانوا يرون الاكتئاب الذي كنت أعاني منه من حين لآخر وكانوا يعرفون ما يدور من مشاكل في الورشة بمجرد تصرفاتي في المنزل أو من خلال الكلمات التي كنت أقولها لدى عودتي من العمل".

وتأثرت أيضا بالانقسامات التي ظهرت بين الحائكات الجزائريات اللواتي أصبحن يستمعن أكثر للفرنسيين الذين كانوا يأتون من باريس على حد قولها، الأمر الذي عكر الأجواء بينهن وحال دون تنامي العلاقات بشكل إيجابي.

وتشير حبيبة إلى أن "الذكريات الرديئة في الورشة تغلبت على الذكريات الجميلة"، مضيفة أنها لا تزال تحتفظ في ذهنها بصور بعض النساء المسنات اللواتي فارقن الحياة بعدما تقاسمت معهن أوقاتا سعيدة. وتشعر بالحنين والحزن لدى رؤية وجوههن على الصور لأن غالبيتهن لم يعدن في هذه الحياة".

تزور حبيبة من حين لآخر الورشة لأنها لا تريد أن تكون سجينة لـ "الغضب" ولا "الكراهية". فهي تريد فقط الابتعاد عن الذكريات المؤلمة، ولا تريد أن تمحو من ذاكرتها 33 عاما من حياتها هناك. وقالت: "أبحث عن السكينة والتوازن... إن أجمل تقدير يمكن أن يقدموه لي هو استنساخ إحدى لوحاتي الفنية وحياكتها على سجادة في ورشة لوديف".

اسمها مباركة، وصلت إلى فرنسا في العام 1962 وعمرها 15 سنة، جاءت برفقة زوجها الذي كان حركيا* إبان ثورة التحرير (1954-1962).

لم تتوقع مباركة أن تقضي 45 عاما من حياتها في ورشة كحائكة للسجاد الفاخر الذي يزين اليوم قصور الجمهورية الفرنسية، كقصر الإليزيه وقصر فيرساي ووزارة الخارجية ومؤسسات أخرى من سفارات ومتاحف.

استقرت في البداية في مخيمين، "ريفزالت" و"لرزاك"، خصصتهما الحكومة الفرنسية لإيواء الحركى وعائلاتهم الذين غادروا الجزائر إثر استقلالها. "عندما سمعنا بأن ورشة لحياكة السجاد مخصصة لزوجات الحركى على وشك الافتتاح في مدينة لوديف، انتقلنا إليها والتحقت بالورشة في 1964" تشرح مباركة البالغة من العمر 72 عاما.

تعلمت مباركة فن الحياكة في مسقط رأسها بمدينة أفلو، الواقعة على بعد حوالى 430 كلم جنوب الجزائر العاصمة، عن أمها وأختها اللتين كانتا تحيكان السجاد الأمازيغي. وتقول مباركة: "عندما التحقت بورشة لوديف، جاء مسؤول من باريس ليعلمنا كيف نصنع السجاد على الطريقة الفرنسية".

بدأت مباركة حياتها العملية في سكن من الحطب وسط ظروف صعبة للغاية، برد قارس في الشتاء وحرارة جو جاف في الصيف.

"زميلاتي جميعهن نجحن بالمسابقة، إلا أنا رسبت. لا أدري ما هو السبب، ربما كان اسمي ضمن قائمة حمراء"

وبعدما أصبحت ورشة لوديف تتبع لشركة "لي غوبلان" لصنع الأثاث والسجاد، وبدأ موظفون من باريس الالتحاق بها، انتقلت الحائكات إلى مبنى حديث تتوفر فيه جميع شروط العمل. وتقول مباركة، والتي التحقت بورشة "لوديف" لحياكة السجاد كعاملة بسيطة لأنها كانت أمية: "لم أكن أعرف القراءة والكتابة"، "الإدارة قدمت لنا كراسي جديدة ومريحة بعدما كنا في السابق نجلس على مقاعد من الخشب بدون مسند للظهر، فكانت تتسبب لنا أوجاعا في الظهر إلى درجة أنني خضعت لعملية جراحية".

شاركت مباركة في عدة مسابقات وطنية نظمت في باريس، لكي تطور مسارها الوظيفي من أجل الترقية إلى وظيفة أو منصب أعلى يضمن لها أجرا أفضل، لكنها لم تنجح.

وعلقت على ذلك بالضحك قائلة: "زميلاتي جميعهن نجحن، إلا أنا. لا أدري ما هو السبب، ربما كان اسمي ضمن قائمة حمراء. عندما اعترضت وقدمت شكوى وأردت أن أدافع عن حقي، لم ألق المساعدة من زميلاتي العربيات على الرغم من أنني كنت أدافع عن حقوقي وحقوقهن في آن واحد".

"المسؤولون كانوا يطلبون منا أن نعمل بسرعة ونحيك أكبر عدد من السجاد"

وغالبا ما تتذكر مباركة شبابها والأيام "الزينة" التي قضتها في الورشة برفقة صديقاتها (الكثير منهن غادرن الحياة). فتقول: "كنا نعمل سويا ونأكل سويا ونضحك سويا. لم تكن هناك أي مشكلة بيننا. المسؤولون كانوا يطلبون منا أن نعمل بسرعة ونحيك أكبر عدد من السجاد. لكن ورغم أن العمل كان شاقا، لم نكن نشعر بالتعب لأننا كنا شابات نتمتع بصحة جيدة".

مباركة بن فرحات على اليسار أثناء حفل التقاعد لزميلتين في 1970 (صورة لمباركة بن فرحات)

وتواصل: "تقاعدت في سن 60 بعد 45 عاما من العمل بدون انقطاع". وعندما سألناها عن شعورها بعد مرور سنوات على مغادرتها الورشة، أجابت بنوع من المرارة: "في الحقيقة، لا أشعر بأي شيء لأنه لم يتم الاعتراف بما قدمته من عمل وجهد لهذه الورشة. طبعا في بعض الأحيان أتذكر الأوقات الجميلة التي قضيتها مع زميلاتي، لكن معاملة المسؤولين كانت نوعا ما صعبة، لا سيما بعد تعيين مدراء جدد جاؤوا من باريس".

ولم تعد مباركة إلى مقر عملها منذ أن غادرت الورشة في 2009، وشددت على أنها لا تبحث أصلا عن معرفة أي شيء عنها: "صحيح أني كنت سعيدة في شبابي إذ كان لدي عمل وكنت أقول لنفسي عندما أتقاعد سأنعم بمعاش شهري، لكن في واقع الأمر، الضرائب تأخذ مني تقريبا كل شيء".

"بدون الحائكات العربيات لم يكن لهذه الورشة أن ترى النور"

وما زاد من استياء مباركة أنها، وخلافا للعديد من زميلاتها، لم تحصل على أي تكريم أو ميدالية شرفية بعد أن قدمت أجمل سنوات شبابها للورشة، كما أنها لم تتلق الدعوة لحضور افتتاح معرض كبير مخصص لتاريخ هذا المصنع الذي أقيم في مبنى الإدارة الجهوية لحفظ الأرشيف بمدينة مونبلييه خلال شهري أكتوبر/تشرين الأول ونوفمبر/تشرين الثاني 2019.

وقالت: "لم أسمع بهذا المعرض ولم أتلق أي دعوة لحضوره رغم أنني كنت من بين النساء اللواتي صنعن مجد هذا المصنع الذي أصبح مقصدا للزوار من كل أرجاء العالم".

تعيش مباركة اليوم بمفردها في شقة كبيرة خارج مدينة لوديف، وذلك بعد وفاة زوجها. وتستقبل من حين لآخر ابنتها أنيسة التي تأتي من مونبلييه لقضاء بعض الوقت برفقتها.

ورغم شعورها بنوع من الندم، إلا أنها تتمنى أن تكبر هذه الورشة ويزداد صيتها وتوظف أكبر عدد من النساء العربيات "لأن بدون الحائكات العربيات والسيد فيتاليس -وهو فرنسي من الأقدام السود عاش في مدينة تلمسان بغرب الجزائر وكان يملك مؤسسة خياطة، وقد أدار الورشة لسنوات- لم يكن لهذه الورشة أن ترى النور في 1964" حسب قولها.

"ذهب كل شيء، وبقيت الذكريات"

وأضافت: "للأسف، لم يتبق اليوم في الورشة سوى 3 حائكات وحائك واحد عرب من أصل 90 موظفا. العمل فيها أصبح صعبا. وكل من يريد الالتحاق بها عليه قبل كل شيء أن يفوز بالمسابقة الوطنية، لكن الفرنسيات هن من ينجحن دائما. بناتنا وأطفالنا يرفضون خوض غمار الامتحانات. نحن (العربيات) من أسسنا هذه الورشة مع أمهاتنا وأخواتنا والسيد فيتاليس. وليس هؤلاء".

سجادة مخملية 1964 الشركة الوطنية للأثاث
سجاد يعود طرازه إلى عهد الملك لويس الرابع عشر 1984 الشركة الوطنية للأثاث
فرانسوا كزافييه لالان "الخراف" 1986 الشركة الوطنية للأثاث
فرانسوا موروليه "9 سطور" 1991 الشركة الوطنية للأثاث
كلود كوسكي 2004 الشركة الوطنية للأثاث
متالي كراسيه "تكريم لطوباوية لودو" 2006 الشركة الوطنية للأثاث
سجادة للفنانة اللبنانية بولا يعقوب 2019 الشركة الوطنية للأثاث

ولم يتبق لمباركة، التي أجرت مؤخرا عملية جراحية في الدماغ، سوى الصور المحفوظة داخل ألبوم قديم تفتحه من حين لآخر لتستذكر وجوه زميلاتها السابقات. "أسماء عديدة تعود إلى مخيلتي، مثل ذهبية وخضرة وخالتي أم الخير وكريمة. عدد كبير منهن فارقن الحياة. أشتاق إليهن وأشعر بالحزن عندما أتذكرهن. عشنا كعائلة واحدة في المصنع وخارجه. كنا نتبادل الزيارات ونرقص ونأكل سويا خلال الحفلات. ذهب كل شيء وبقيت الذكريات...".

*الحركى هم الجزائريون الذي حاربوا مع الجيش الفرنسي ضد الثوار الجزائريين خلال حرب التحرير