الفصل الخامس

في الطريق إلى معسكر الموت

تصفح

المشهد الأول: إلى درانسي
  

وبمجرد وصولهم إلى درانسي، سُجل كل فرد من أفراد آل بيكوفسكي في بطاقة خاصة به. هذه البطاقات توجد اليوم في متحف المحرقة ومعروضة خلف واجهة زجاجية مقفلة بإحكام كشهادات وأدلة مهمة على تاريخ الترحيل لمعسكرات الاعتقال ولكنها توجد على شكل نسخ ميكروفيلمية في دار المحفوظات الوطنية. كارولين بيكتي المكلفة بحفظ هذه الوثائق عرضت علينا رؤيتهم. على بطاقة أبراهام نجد البيانات التالية: الجنسية روسي والوظيفة عامل والعنوان 50 شارع جورج سوريل. وعلى بطاقة لويز مكتوب: طالبة. والحرف "باء" مكتوب فوق كل بطاقة بخط واضح ثخين باللون الأزرق ويعني "جاهز للترحيل في أسرع وقت" كما تشرح لنا كارولين. ثم تضيف: "عندما يكون هناك أطفال في العائلة فإن هذا يعني مزيدا من التعقيدات بالنسبة للألمان". وجدت أيضا كارولين إيصالا بتاريخ 22 يناير/كانون الثاني 1944 بمبلغ 855 فرنكا تركها أبراهام للسلطات الألمانية عند دخوله إلى المعسكر. ولكن ماذا كان مصير بقية أغراضهم؟ للإجابة على هذا السؤال أخذتنا كارولين إلى صالات حفظ الوثائق حيث المتاهة الكبيرة من الأرفف التي يعتليها 6000 صندوق بها كل الوثائق التي سجلتها المديرية العامة أثناء الحرب والخاصة باليهود.

"إنها مدهشة" هكذا صرحت الموظفة التي تعمل منذ سنوات على موضوع نهب الممتلكات اليهودية قبل أن تضيف قائلة: "لحسن الحظ أننا لا نصاب باللامبالاة رغم التجول المتكرر لسنوات بلا هدف بين أروقة هذه المحفوظات". وسط هذه الأكوام من الوثائق نجد آلاف الملفات عن نهب الممتلكات أو تجميد الحسابات البنكية ولكن لا شيء يخص آل بيكوفسكي. "لقد كان الأب سائق تاكسي وليس لديه شركة خاصة كما أنه لم يكن يمتلك المسكن الذي كانت تعيش به العائلة لذا من الصعب العثور على شيء يخصه" هكذا أوضحت كارولين، "وأما ما يخص أغراضهم فقد وضعت الأختام على مسكنهم بعد اعتقالهم، ثم جاء الألمان بعد ذلك بسيارة نقل لجمع الأغراض وتحميلها، ويحتمل أن تكون حارسة العقار قد نالت حظا من بعض الأغراض، كل السيناريوهات مفتوحة وممكنة". لم يكن آل بيكوفسكي أغنياء ولم يمتلكوا أعمالا فنية ذات قيمة تذكر ويبدو أن أغراضهم قد ذهبت إلى أحد المستودعات الألمانية المخصصة للأغراض المنهوبة من اليهود الباريسيين ليتم فرزها قبل أن تجد طريقها إلى نهر الراين لتختفي آثارها بعد ذلك إلى الأبد.


بطاقات اعتقال أفراد أسرة بيكوفسكي في سجن درانسي

لم يكن هذا ما يقلق لويز وعائلتها في سجن درانسي، فقد كانت الأغراض هي آخر همهم. فقد وجدوا أنفسهم هناك بعيدين عن بعضهم بعضا كما يوضح ذلك سجلات الدخول للمعتقل الخاصة بمديرية الأمن. أبراهام وجون كانا في الزنزانة رقم 8.4 مع رجال آخرين، بينما بارب وبناتها الثلاث وضعن في الزنزانة رقم 10.3 ويشير العدد الأول من كل رقم إلى رقم درج في السجن. وجدناهما بسهولة على مجسم المعتقل الموجود بالنصب التذكاري للمحرقة في درانسي شمال شرقي باريس. وفتح هذا النصب التذكاري أبوابه للجمهور في العام 2012 ويقع مكانه أمام موقع السجن القديم تماما والذي كان مصمما في الثلاثينيات من القرن الماضي لإيواء الأسر الفقيرة. هذا المجمع السكني الذي كان يطلق عليه "مدينة النورس" استولى عليه الألمان في يوليو/تموز 1940 وحولوه إلى سجن للفرنسيين والإنكليز قبل أن يصبح مركزا كبيرا للاعتقال. في الفترة الواقعة بين العامين 1941 و1944 مر أكثر من 80 ألف يهودي عبر مركز درانسي هذا. وبعد مرور 70 عاما عاد هذا المجمع السكني لوظيفته الأولى حيث تعيش الآن أسر فقيرة ومتواضعة في نفس الغرف التي كانت تؤوي المعتقلين. لم يتبق من كل هذا إلا نصب تذكاري لتخليد ذكرى المرحلين وسيارة قديمة تقع على بعد عدة أمتار من مباني المجمع السكني. الرحيل إلى معسكرات الموت بالقطار لم يكن من محطة درانسي، فعشية الترحيل كان قليلو الحظ المقرر إرسالهم للمعسكرات يُجمعون في جزء خاص من المعسكر وفي صبيحة اليوم التالي يُشحنون في حافلات إلى محطة بوبيني الواقعة على بعد كيلو مترين فقط من درانسي. آل بيكوفسكي لم ينتظروا كثيرا قبل ترحيلهم، فقد كان وصولهم إلى درانسي في 22 يناير/كانون الثاني 1944 ثم وضعت أسماؤهم على قائمة الترحيل رقم 67 وبعدها رحلوا يوم 3 فبراير/شباط 1944.


قائمة الترحيل رقم 67 والتي كان مسجلا بها 1214 شخصا من بينهم 184 طفلا



المشهد الثاني: الطريق إلى أوشفيتز
  

كان يوم 3 فبراير/شباط هذا هو يوم عيد ميلاد آنيت، الأخت الكبرى للويز، الثامن عشر. عيد ميلاد بائس قضته بجوار 1213 سجينا منهم 184 طفلا وكان جميعهم على قائمة الترحيل في القافلة رقم 67. ليا شفارتسمان كانت أيضا ضمن هذه القائمة وهي فتاة من بلدة تنكو بالقرب من مدينة رانس اعتقلت قبل آل بيكوفسكي بعدة أيام مع والديها و11 من أشقائها. تبلغ من العمر الآن 91 عاما ونجت من المحرقة. ليا لا تتذكر أنها قابلت أحدا من أسرة بيكوفسكي لكنها ما زالت تتذكر تفاصيل تلك الرحلة الرهيبة. تقول: "كان عدد المرحلين في هذه القافلة كبيرا جدا، أنا وأسرتي لم نكن خائفين بالمرة لأننا كنا نعتقد اعتقادا جازما أن الألمان قد ارتكبوا خطأ باعتقالنا وأنهم سيطلقون سراحنا من درانسي. وعندما حل المساء ونادوا على أسمائنا فهمنا كل شيء وأن أمرنا قد انتهى وأن الفخ قد أغلق بإحكام علينا". في شقتها الباريسية استقبلتنا ليا بحرارة لتروي لنا قصتها المحزنة فهي وعائلتها كانوا يتصورون أنهم يحلمون حلما سيئا. وتكمل قائلة: "كان الصعود إلى عربات القطار في بوبيني أمرا صعبا علينا وكنا دائما ما نسمع كلمة ‘سريعا سريعا‘ بالألمانية وكانوا يدفعوننا دفعا مما اضطرني إلى ترك جزء كبير من ملابسي، كان كل شيء عدوانيا. شعرت بخوف شديد من الكلاب الضخمة التي كانت برفقة الجنود ولكن علينا أن نصعد إلى القطار. كان أمرا صعب التقبل بالنسبة لفتاة بعمري آنذاك" حتى الذكرى كانت تشعرها بالألم وهي تتكلم. أضافت والألم يعتصرها: "داخل القطار خطب فينا الجنود مهددين بأن أية محاولة للهرب سيدفع ثمنها كل من بالقطار وسيقتلوننا جميعا رميا بالرصاص" كان الأمر فظيعا ولكن ما هو أشد قسوة لم يأت بعد. كانت الظروف في القطار غير إنسانية بالمرة، كانوا عطشى وجوعى كما كانت الروائح لا تطاق وكانوا متراكمين بعضهم فوق بعض. استمرت ليا في روايتها: "عندما كنا نشعر بضرورة قضاء الحاجة كان البعض يضع ستارة كما لو كنا في دورة مياه. كانت رحلة لا تحتمل".


محطة قطارات بوبيني القديمة، نقطة انطلاق قوافل المرحلين من اليهود الفرنسيين إلى أوشفيتز-بيركناو بين يوليو/تموز 1943 وأغسطس/آب 1944

كان كل أفراد أسرة شفارتسمان مجموعين في نفس العربة، تتذكر ليا الصمت الثقيل المخيم على جميع من كانوا بالعربة: "لم تنبس أمي ببنت شفة، لم نكن خائفين ولكن القلق كان ينهشنا، كنا نجهل ماذا سيفعلون بنا. كنا نتصور أنهم سيفصلوننا عن بعضنا البعض". بعد ثلاثة أيام وثلاث ليال فتحت أبواب عربات القطار: "كان أمرا مريعا لأنه كان بيننا على الأقل جثتين لأشخاص توفوا أثناء الرحلة. وعندما بدأنا بالنزول كانوا يأمروننا بسرعة التحرك". وأخيرا وصل الجميع إلى أوشفيتز في بولندا حيث توقف القطار. تواصل ليا: "لقد أخرجونا من القطار بوحشية وحينئذ فهمت على أي شيء كانوا قادرين هؤلاء الوحوش". وفي هذه الفوضى العارمة اختفى والدها عن نظرها ولم يكن هناك وقت كاف لأمها سوى للقول "أراك في المساء". اختاروا ليا وأختها سوزان ليقفا في الصف الأيمن وباقي أفراد العائلة في الصف الأيسر: "وهنا أتت سيارات النقل التي تحمل المرضى والأطفال. نظرنا أنا وأختي لبعضنا وحمدنا الله أن الأمر لم يكن أسوأ مما كان عليه، أرأيتم كيف كان الأمر منظما". أُخذت ليا وسوزان مباشرة إلى معسكر النساء في بيركناو حيث حلقوا لهما شعرهما ووضعوا الوشم على جسديهما. وبعد عدة ساعات كان سوط الحقيقة يجلدهما: "أتت إلينا فتيات فرنسيات ليسألن من أين جئنا. وكن يضحكن بعصبية عندما سألناهن ‘أين ذهب والدانا‘. بعض اليهود الفرنسيين الذين يتكلمون الفرنسية ردوا قائلين: ‘ولكنكما لا تفهمان، هنا في بيركناو لا يوجد إلا أفران الغاز‘ نظرنا إلى بعضنا البعض وأخذنا في البكاء لأول مرة".


ليا شفارتسمان فقدت 12 فردا من عائلتها في المحرقة: والداها وعشرة من أشقائها

نظرات ليا كانت تكشف عن عزمها وصلابتها. لم تسل دمعة من عينها ولم ترتعش يداها ولو لحظة، كانت تقف مرفوعة الهامة كوقفتها في 1944 أمام النازيين. كانت هذه الروح المقاومة التي أتاحت لها الصمود إلى جوار أختها: "وأيضا الحظ والإيمان. كنت محظوظة لأنني لم يقع عليّ الاختيار للذهاب إلى الأفران والإيمان الذي حملته بين ضلوعي من أجل أسرتي كل هذا أعطاني القوة والشجاعة". أما لويز ألم يقع عليها الاختيار للذهاب إلى معسكر العمل هي أيضا؟ في محفوظات معسكر أوشفيتز لا يوجد أثر واحد لها، لا أثر سوى اسمها المطبوع على قائمة قافلة المرحلين رقم 67. في هذه القافلة التي ضمت 1214 شخصا اختير 166 رجلا و49 امرأة فقط للذهاب إلى معسكر العمل والمتبقون وعددهم 985 ذهبوا مباشرة إلى أفران الغاز. كانت لويز تكبر ليا بعامين فقط فما الذي يفسر لنا عدم اختيارها لتذهب مع ليا؟ سؤال لا تجد ليا عليه إجابة: "لِمَ أنا؟ أختي الأصغر مني كانت تبلغ 16 عاما لكنها أطول وأقوى مني ومع ذلك أخذت إلى أفران الغاز مباشرة بينما أنا لا" ربما رفضت لويز أن تبقى بدون والديها؟ سؤال يبقى بلا إجابة. بشكل رسمي وحسب إشعار حكومي صادر بتاريخ 5 مارس/آذار 2015 فإن لويز ماتت يوم 8 فبراير/شباط 1944 أثناء ترحيلها إلى أوشفيتز، ولكن هذا التاريخ لا يستند إلى أية أدلة ملموسة فالدولة الفرنسية أضافت بكل بساطة خمسة أيام على تاريخ مغادرة القافلة لتحديد تاريخ الوفاة لأسباب إدارية. ليا شفارتسمان بدورها نجت من آلة الفناء هذه ثم من مسيرة الموت بعدها قبل أن يتم تحريرها أخيرا من معسكر رافينسبروك في أبريل/نيسان 1945 هي وأختها. وبهدوء رفعت يدها لترينا الرقم الذي وسمها به جلادوها الذين تركوا لها علامة لا تمحى ليس فقط على جسمها وإنما في أعماق روحها أيضا. تعلق قائلة: "من الفظاعة العيش مع كل هذه الذكريات المتبقية مما حدث في أوشفيتز فهي لا يمكن محوها ومن الصعب علينا شرح ما حدث للآخرين فهو أمر يفوق كل شيء أنه أسوأ من الجحيم ذاته" وتضيف أخيرا: "لا أستطيع الهرب أبدا من أوشفيتز أو بيركناو".