تصفح


  

في صيف 1997، وبينما كانت الجزائر تواجه حربا أهلية بدأت قبلها بخمس سنوات، وقعت سلسة مجازر فيما يسمى "مثلث الموت"، لاسيما بمنطقة البليدة المحاذية للعاصمة. وفي ليل 22 و23 أيلول/سبتمبر، تعرضت بلدة بن طلحة، بدائرة براقي، لأكبر مذبحة جماعية عرفتها البلاد وقتل فيها أكثر من 400 شخص. ورغم مرور عشرين عاما على هذه المأساة إلا أن عائلات الضحايا لا تزال تتألم لذكرى موتاها وبشاعة هذه العملية.

الفقرة الأولى

  


في ليل 22 و23 أيلول/سبتمبر، دخلت جماعة مسلحة مكونة من عشرات الأشخاص الملتحين الذين يرتدون الزي الأفغاني الذي يميز المقاتلين الإسلاميين إلى بلدة بن طلحة، الواقعة بدائرة براقي، جنوب الجزائر العاصمة، وقتلوا مئات الأشخاص. واستمرت المذبحة بحسب شهود من العاشرة والنصف مساء إلى الفجر، مخلفة أكثر من 400 قتيل (نحو 100 قتيل حسب السلطات). وكانت هذه الجماعة مسلحة بالسكاكين والسواطير والبنادق، وانتقلت من منزل لآخر في حيي الجيلالي وبودومي بعد أن قطعت الكهرباء عن البلدة الغارقة في الظلام والرعب.




قوات الأمن تمنع سكان بن طلحة من الدخول إلى مكان المجزرة، في 23 أيلول/سبتمبر 1997.


بحسب عدة شهادات رصدتها الصحف الوطنية والدولية غداة المجزرة، كانت على أبواب المنازل المستهدف أصحابها إشارة خاصة. وقال شهود أيضا أن امرأة من بن طلحة التحق أهلها بالإرهابيين كانت تدل القتلة وتقودهم بين المنازل. ولم يفرق الإرهابيون بين النساء والرجال، بين الأطفال والشيوخ. فذبحوا وقطعوا الرؤوس وفتحوا بطون الحوامل وضربوا الأطفال عرض الجدران ووضعوهم في الفرن. وبعد فعلتهم، خرج الإرهابيون من البلدة كما دخلوها، أي من دون أن يعترضهم أحد على الرغم من أن وحدات الجيش لم تكن سوى على بعد مئات الأمتار. فلا صراخ الضحايا ولا إبلاغ من فروا دفع قوات الأمن للتدخل، وقال العسكريون إنهم لم يتلقوا أمرا بالتدخل، فضلا عن أن البلدة كانت ملغومة ومظلمة.


امرأة منهارة من شدة الصدمة في محيط مستشفى زميرلي إثر مقتل عدة أفراد من عائلتها في المجزرة. هذه الصورة معروفة باسم "مادونا بن طلحة"، ونالت جائزة "وورلد برس" للصورة الفوتوغرافية 1998.


ولا شك أن صورة ما عرف آنذاك بـ"مادونا (أو سيدة) بن طلحة"، التي التقطها مراسل وكالة الأنباء الفرنسية والتي تظهر فيها امرأة منهارة تستند لحائط بمستشفى زميرلي بحي الحراش في ضاحية الجزائر الجنوبية، أعطى صدى عالميا لمجزرة بن طلحة لتصبح رمزا للوحشية الإرهابية التي اجتاحت البلاد.

الناجون والشهود لم ينسوا شيئا من تلك الليلة القاتمة. لم ينسوا المتفجرات التي اقتلعت أبواب المنازل ولا صفارات الإنذار التي أطلقها السكان للإبلاغ بالهجوم، ولا صوت الكلاشنيكوف المرعب ولا صدى الصراخ المتصاعد من البلدة ولا طائرة الهليكوبتر التي ظلت تطوف ببن طلحة.

ويعاني غالبيتهم اليوم من آثار سيكولوجية (نفسية) لم تعالج حتى الآن، حتى أن بعضها تحولت لأمراض عقلية. وهذه المخلفات ناتجة عن المشاهد الشنيعة التي باتت راسخة في أذهانهم رغم قوانين المصالحة التي أقرها الرئيس عبد العزيز بوتفليقة منذ توليه الحكم في نيسان/أبريل 1999، وأبرزها قانون "الوئام المدني" في تموز/يوليو 1999 و"ميثاق المصالحة الوطنية" في شباط/فبراير 2006.




مدخل بلدة بن طلحة.


أصبحت بن طلحة اليوم مدينة تقترب شيئا فشيئا من براقي، لاسيما بعد تشييد ما يسمى "الحي الجديد" ليقابل "الحي القديم". أما الحياة، فقد عادت إلى مجراها العادي، شارعها الرئيسي يعيش على وقع أقدام الرجال والنساء الذين يقتنون حاجاتهم اليومية من المتاجر والمحلات الكثيرة الموزعة على أطرافها. وفي آخر هذا الشارع، يقع حيا الجيلالي وبودومي اللذان وقعت فيهما مجزرة 1997.




مشهد من حي الجيلالي بعد عشرين عاما على المجزرة.


عندما دخلنا حي الجيلالي، وجدنا رجالا مجتمعين حول طاولة قرب مدرسة ابتدائية وهم يلعبون "الدومينو" لقضاء وقت الفراغ بانتظار صلاة المغرب. وكان شاب في الثلاثين بالقرب منهم فسألناه عن ضحايا المذبحة، فرد قائلا: "الكل هنا تضرر منها، كل عائلة فقدت أحد أبنائها". وكان وسط هؤلاء الرجال مسعود، أحد ضحايا وشهود أحداث بن طلحة.




الهروب من كابوس الماضي

  



غالبية الضحايا دفنت بمقبرة سيدي رزين عند مشارف مدينة براقي.


"قلوبنا ماتت"

فاطمة (اسم مستعار) واحدة من شهود مجزرة بن طلحة. وقد فقدت هذه المرأة البالغة من العمر 55 عاما سبعة من أقاربها خلال العشرية السوداء: زوجها، زوج والدتها، أربعة من إخوتها، وحفيدها.

"في 1997، عندما وقعت المجزرة، كنا نسكن على مشارف المدينة. وأخي أول أفراد الدفاع الذاتي [الذين تشكلوا في الجزائر ابتداء من 1993 لمقاومة الإرهابيين] في بن طلحة، وأمي أيضا حملت السلاح ضد الإرهاب. عندما تلقينا خبر وقوع المجزرة سارعنا راكضين فجرا إلى عين المكان، وكانت ابنتي الصغيرة (التي كانت آنذاك في قسم الثالثة ابتدائي) برفقتي. لقد رأت إحدى صديقاتها مقطوعة الرأس وظلت مصدومة إلى اليوم.

ورأينا مشاهد لا توصف ولا تطاق: رؤوس مقطوعة وأجساد محروقة أو متقطعة... قلوبنا ماتت منذ تلك اللحظة. كيف أنسى هذا الجار الذي كان يرمي أولاده من خلف الجدار أملا في إنقاذهم من الإرهابيين، ولكن المسكين كان يجهل أن هؤلاء كانوا يذبحون الطفل فور وقوعه على الأرض. وكان الناجي الوحيد من عائلته إذ أنه تخبأ تحت شجرة الموز. ولكنه أصيب بالجنون.

لقد أصبح أطفالنا مرعوبين وكأنهم اليوم براكين نائمة. إحدى بناتي، التي تزوجت وأنجبت ثلاثة أولاد، لا تزال عرضة للاضطراب. أما والدتي فقد تتكلم مع نفسها.

أسكن دائما في بن طلحة. وبصفتي ضحية للإرهاب أتقاضى منحة من الدولة قدرها سبعة آلاف دينار (أي نحو 50 يورو) في الشهر. كيف أعيش بسبعة آلاف دينار؟ أنا مستاءة للغاية ومحبطة.

العفو عن الإرهابيين؟ وهل يمكن أن نعفو بعد كل ما حدث؟ الرئيس بوتفليقة أقر قانون الوئام المدني ولكن لا نتسامح معهم أبدا. فنحن نعيش ونفكر فيمن قتلوا، وفي كل 22/23 أيلول/سبتمبر تعود المشاهد المرعبة إلى الذاكرة. ونتفكر كيف كان حي الجيلالي وكيف أصبح...




بلدة بن طلحة تقع في هضبة المتيجة، على بعد نحو عشرين كلم من الجزائر العاصمة.


"ولم يتوقف القتل سوى مع بروز الفجر"

نادية (اسم مستعار) كانت في 28 من عمرها عندما وقعت مجزرة بن طلحة. وكانت تعيش في هذه البلدة مع ابنتها البالغة عامين آنذاك. ورغم أنها لم تكن تسكن في حي الجيلالي إلا أنها سمعت صراخ الضحايا وطلقات الرصاص وهلع السكان للهرب من قبضة الإرهابيين.

كان الإرهابيون دائما يهددون سكان بن طلحة ويتوعدونهم بارتكاب مجزرة بحقهم. وكان أحدهم، وهو من أبناء بن طلحة، قد قالها علنا بعد مذبحة الرايس (القريبة من هذه البلدة): "أنصحكم بالرحيل قبل فوات الأوان". وكانوا غالبا ما يدخلون البلدة ويطالبون السكان بالطعام وكل ما يحتاجونه. وفي تلك الليلة، وضعت علامات في أبواب المنازل المستهدفة، ما معناه أنها لم تستهدف من باب الصدفة.

وقعت المجزرة ليل الاثنين الثلاثاء (22/23 أيلول/سبتمبر). بدأ الصراخ وانطلقت صفارات الإنذار نحو العاشرة والنصف مساء. انقطع الكهرباء فغرقت البلدة في الظلام، وخرجنا إلى الشارع حفاة، بعضنا بلباس النوم. سمعنا للقصف، كأننا في حالة حصار. ورأيت أشخاصا قفزوا من شرف منازلهم، ورأيت امرأة حامل فتحوا بطنها.

تمكن بضعة أشخاص من الفرار لوسط البلدة، وساد الهلع في كل مكان. قضيت ليلتي خارج البيت، واختبأنا أنا وابنتي في مكان خفي وكانت تبول من شدة الخوف. ولم يتوقف القتل سوى مع بروز الفجر.

وفي الساعات الأولى من الصباح، خيم الحزن على بن طلحة، كل شيء كان غريبا. هذه المشاهد لن أنساها أبدا. في ساحة مدرسة ابن باديس، وضعت الجثث جنبا إلى جنب، كبار وصغار وأطفال... وضمن هذه الجثث عدة أشخاص كنت أعرفهم. ومن شدة الألم والصدمة، أصبت بنزيف وتم نقلي إلى المستشفى.

وفي مثل هذا اليوم (23 أيلول/سبتمبر) من كل عام، تعود الذكريات إلى الذهن ويعود الألم معها. لقد عشنا مع عدو خفي مدة عشر سنوات، ولدي إحساس غريب بأن بلادنا فشلت في حماية أبنائها. لا أحد هنا يعرف لماذا لم نحظ بالحماية رغم وجود الجيش والحواجز الأمنية.

ما يمكن قوله اليوم؟ الإرهابيون ينعمون بالرفاهية والأموال، ولكن نحن سرقت عشر سنوات من حياتنا وكلنا مصابون بمرض ما. في سنوات التسعينات، كنت في العشرينات من العمر ولكن تعذر علي مزاولة الدراسة.

أنا مريضة ولكن لا أدري بأي داء. أخاف من كل شيء وأرهب أن يمشي أحد خلفي حتى ولو كان شخصا أعرفه. هذا قضاء الله! ما عشناه لن ننساه ولن نسامح من قتلوا وذبحوا.




مسعود فقد أبنائه العشرة وزوجته في المجزرة.


"سأظل أفكر في تلك الليلة حتى الموت"

مسعود (60 عاما) هو أحد الناجين من مجزرة بن طلحة، وما زال يسكن في حي الجيلالي. وبالنسبة إليه، فإن الجيش هو من قتل أولاده العشرة وزوجته رميا بالرصاص. وهذا ما يقوله مرارا منذ عشرين عاما.

"قتلوا أولادي ولم يبق سوى أنا. وبالنسبة إلي، فإن الحكومة هي التي نفذت المجزرة. لماذا نتحدث عن الإرهاب، لم الكذب؟ أليست الحكومة من خلقت الإرهاب؟ انظروا إلى الذين استفادوا من قانون الوئام المدني: لديهم منازل وعمل وهم أحرار!

أقسم لك بالله أني مستعد أن أفجر نفسي في العاصمة، وسط الوزراء. أتذكر أن في تلك الليلة، كان ضابط في المخابرات واقفا هناك (يشير إلى عمود كهرباء على بعد 20 مترا). فقلت له: "إذا كلكم إرهابيون"، فرد قائلا: "إن مهمتي أن أحث من حملوا السلاح أن يسلموا أنفسهم".

الكل يعلم ما حصل. كان عددهم كبيرا، وبدأوا فعلتهم من الساعة العاشرة و40 دقيقة مساء لغاية الفجر. لا أحد تدخل. الشرطة تقول إنها لم تتمكن من دخول بن طلحة ولكن ما الذي منعها من أن تطوق المكان وتمنع القتلة من الفرار؟ ولماذا لم يطلقوا ولو رصاصة واحدة؟ حسب رأيي، لم يطلقوا النار لأنهم خافوا أن يصيبوهم.

ماذا تلقيت مقابل مقتل أولادي وزوجتي؟ 490 ألف دينار (أي نحو ثلاثة آلاف و700 يورو). لا أحد يبالي، ناهيك عن الرشوة التي تحيط بالتعويضات التي تمنح لضحايا الإرهاب! حتى جمعيات الضحايا تفكر أكثر بمصالحها ولا أحد يكترث بنا. أما القتلة، فلديهم كل ما يحتاجونه من المال والسكن والشغل.

وعندما أرى هذا الشخص أو ذاك يقيم حفل زفاف لنجله وابنته، أتحسر على نفسي: أين أولادي؟

لقد تزوجت من جديد ولدي اليوم ثلاثة أولاد، ولكني أظل أفكر في تلك الليلة رغما عني. عالجت الجراح لدى أطباء نفسيين ولكن لا شيء يجدي. "سأظل أفكر في تلك الليلة حتى الموت". لا يمكنني أن أنسى تلك الليلة.




"ولاد الحامة معاك يا الخضرا"




الانفتاح الديمقراطي و"العشرية السوداء"

  

في 26 كانون الأول/ديسمبر 1991، جرت في الجزائر أول انتخابات حرة منذ استقلال البلاد في 1962، وهي انتخابات تشريعية فازت فيها "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" بغالبية المقاعد. وحصل الحزب الإسلامي المتشدد، والذي يدعو علنا لتأسيس دولة إسلامية، على 188 مقعدا من أصل 430 منذ الدورة الأولى.

وأمام الأمر الواقع، قررت السلطات الجزائرية وعلى رأسها الجيش إلغاء هذه الانتخابات. وظهر رئيس الجمهورية الشاذلي بن جديد على شاشة التلفزيون في 11 كانون الثاني/يناير 1992 ليعلن تعليق المسار الانتخابي وحل البرلمان. وفي أعقاب ذلك، تم تأسيس ما يسمى "المجلس الأعلى للدولة" لسد الشغور الدستوري وضم خمسة شخصيات على رأسها محمد بوضياف، أحد أبرز رموز حرب التحرير [المغتال في 29 تموز/يوليو 1992 بمدينة عنابة، شرقي البلاد].

وبالنسبة لـ"جبهة الإنقاذ"، فإن إلغاء الانتخابات معناه إعلان حرب، فانتفض بالسلاح لينذر بانطلاق حرب أهلية خلفت حسب إحصاءات غير رسمية نحو 200 ألف قتيل و20 ألف مفقود (حسب منظمات غير حكومية).




شعار مساند لحزب "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" بأحد شوارع العاصمة، في 19 يناير/كانون الثاني 1992.


من 1992 إلى بداية الألفية الجديدة، دارت حرب طاحنة بين الجيش الجزائري و"الجيش الإسلامي للإنقاذ" وهو الذراع المسلح لـ"جبهة الإنقاذ"، وكذلك "الجماعات الإسلامية المسلحة" و"الحركة الإسلامية المسلحة".

في الأشهر الأولى، قاد الإرهابيون عمليات استهدفت عناصر الأمن والجيش ومثقفين وصحافيين، وأي شخص يعارض التوجه الإسلامي. ثم قاموا باعتداءات بالقنابل ضد مواقع رسمية منها الهجوم على مطار الجزائر الدولي "هواري بومدين" في 26 آب/أغسطس 1992. وفي تشرين الثاني/نوفمبر 1995، تم انتخاب الجنرال ليامين زروال رئيسا للجمهورية بعدما كان يشغل منصب "رئيس الدولة". ورغم تهديدات الجماعات الإرهابية، إلا أن الجزائريين توجهوا بأعداد قياسية إلى مكاتب الاقتراع وانتخبوا زروال رئيسا لهم. وتزامنا مع استمرار الحرب ضد الإرهاب، باشر زروال مفاوضات سرية مع قادة "الجيش الإسلامي للإنقاذ" في 1997 لأجل إقرار السلام في البلاد.

وقبل 48 ساعة من مجزرة بن طلحة، كان الذراع المسلح لـ "الجبهة الإسلامية للإنقاذ" قد أعلن عن هدنة، داعيا كل مقاتليه إلى وقف العمليات المسلحة ابتداء من الفاتح من تشرين الأول/أكتوبر 1997 "لكشف من يقف وراء المجازر الشنيعة...".




"مثلث الموت" في المتيجة حيث وقعت المجازر التي نفذتها "الجماعات الإسلامية المسلحة".


ولكن في جنوب الجزائر العاصمة، تعززت سيطرة "الجماعة الإسلامية المسلحة" على منافساتها، ودشنت صفحة جديدة في الرعب الإرهابي: المجازر الجماعية ضد المدنيين. فنفذوا عمليات بعدة جهات منها الرايس وبن طلحة بمنطقة المتيجة الزراعية وأيضا غليزان (غرب البلاد) وبني مسوس إحدى ضواحي العاصمة. قتل عشرات الأبرياء هنا ومئات هناك، وتنوعت أساليب القتل الوحشية بين الذبح والرصاص وقطع الرؤوس. وتساءل البعض في الجزائر وخارجها، لاسيما بفرنسا، "من يقتل من" رغم أن "الجماعة الإسلامية المسلحة" تبنت غالبية المجازر. ودار التساؤل حول الجيش "لماذا لم يتدخل"؟




ملصقات البحث عن المجرمين، في 1997.


هذا التساؤل يعتبره كثيرون "بشعا" وفي غير محله، مؤكدين أن أساليب القتل وثياب الإرهابيين كما لحاهم لا تترك مجالا للشك، مستشهدين بفتوى أمير هذه الجماعة عنتر زوابري في أيلول/سبتمبر 1996 عندما دعا الجزائريين إلى "خيار الدعم" لجماعته "أم الموت". وهدد فيها "أعداء الإسلام" بمصادرة أملاكهم وخطف نسائهم، قبل أن يجيز قتل النساء والأطفال. ولكن المشككين يزعمون بأن الجيش قد زرع عناصر له بين الإرهابيين لمعاقبة السكان المتضامنين مع "الجبهة الإسلامية للإنقاذ".




مناصرو المرشح للانتخابات الرئاسية عبد العزيز بوتفليقة، في 11 نيسان/أبريل 1999.


الجزائر تطوي صفحة المأساة

عقب انتخابه رئيسا للبلاد في نيسان/أبريل 1999، أقر عبد العزيز بوتفليقة قانون "الوئام المدني" الذي يهدف إلى عودة الإرهابيين الذين تخلوا عن العمل المسلح للحياة ضمن المجتمع الجزائري، وكذلك العفو عمن دعموا الجماعات الإرهابية خلال "العشرية السوداء". وفي 15 آب/أغسطس 2005، دعا بوتفليقة مواطنيه إلى التصويت في استفتاء على "ميثاق المصالحة الوطنية" الذي أقر العفو الشامل عن الإرهابيين الذين وضعوا السلاح والذين لم يرتكبوا جرائم. وأقر القانون أيضا تعويضات مادية لأرامل ويتامى الإرهابيين ولعائلات المفقودين شريطة أن تكون بحوزتهم شهادة وفاة.

وضم أمر تطبيق نص الميثاق مادتين تمنعان عائلات ضحايا الإرهاب من ملاحقة المجرمين. فالمادة 46 على سبيل المثال تعاقب بالحبس من ثلاث إلى خمس سنوات وبغرامة مالية تصل لـ500 ألف دينار كل من يستعمل، من خلال تصريحاته أو كتاباته أو أي عمل آخر، جراح المأساة الوطنية أو يعتد بها للمساس بمؤسسات الجمهورية... أو لإضعاف الدولة، أو للإضرار بكرامة أعوانها الذين خدموها بشرف، أو لتشويه سمعة الجزائر في المحافل الدولية".




عائلات المفقودين في اليوم العالمي للمفقودين، في آب/أغسطس 2011.


ويرى بعض الأطباء والمدافعين عن حقوق الإنسان أن الجزائر كانت بحاجة لما سموه "العدالة الانتقالية"، والتي كانت ستسمح لها بمواجهة ما وقع في إطار دولة القانون، وكما حصل في بعض الدول مثل جنوب أفريقيا ورواندا والمغرب من خلال "لجان الحقيقة والمصالحة".




مركز العلاج السيكولوجي ببن طلحة يقع على بعد أقل من كيلومتر من مكان المجزرة.


عمل الذاكرة ضروري ولكنه مستحيل

  


"لقد عالجنا الناجين الـ426 من مجزرة بن طلحة"



البروفيسور خياطي طبيب أطفال، ومؤسس الهيئة الوطنية لترقية الصحة وتطوير البحث، قال إنه لاحظ خلال العشرية السوداء أن عدة أطفال بحاجة إلى العلاج جراء تعرضهم لمشاهد وحشية، ما خلق لديهم عدة صدمات نفسية مثل العنف والاضطراب والتوحد. وضمت هذه المنظمة غير الحكومية التي تشمل 25 مركز علاج في الجزائر طاقما من الأطباء النفسيين والمربين والمساعدين الاجتماعيين لعلاج الأطفال ضحايا الإرهاب. وقال خياطي: "لقد تمت معالجة 50 ألف ضحية من أصل مليون شخص".





"العائلات عاجزة عن طي الصفحة"



في 17 تشرين الأول/أكتوبر 1996، أسست شريفة خدار مؤسسة "جزائرنا" المدافعة عن ضحايا الإرهاب. وقد اغتيل شقيقها (المهندس المعماري) وشقيقتها (المحامية) في 24 تموز/يونيو من العام ذاته تحت أعينها في البليدة. وكانت إحدى أولى خطواتها المشاركة في دفن الضحايا لأجل تقديم الدعم المعنوي للعائلات. وقالت: "كل من يحضر جنازة دفن ضحايا الجماعات الإسلامية المسلحة كان يعتبر معاديا للمشروع الإسلامي وبالتالي فهو معرض للقتل". وفي مرحلة لاحقة، بدأت الجمعية تقدم الدعم السيكولوجي والمادي والقانوني لعائلات الضحايا. وكانت شريفة خدار في بن طلحة غداة المجزرة لمساعدة الناجين. وبالنسبة إليها، فإن حفظ الذاكرة أمر جوهري، ولأجل هذا فهي مستاءة من ميثاق المصالحة.