تبكي فرنسا رحيل سيمون فاي إحدى أبرز شخصياتها السياسية والتي توفيت في 30 يونيو/حزيران 2017 عن عمر ناهز 89 عاما. دخلت فاي قلوب الفرنسيين بفضل دفاعها الشجاع والمؤثر العام 1975 أمام نواب البرلمان لتشريع الإجهاض. إحدى الناجين من المحرقة النازية، وزيرة، رئيسة للاتحاد الأوروبي، عضو في الأكاديمية الفرنسية، صنعت فاي التاريخ بفضل قناعاتها، شخصيتها وحياتها المميزة.

"بناء حياة جديدة"

  سيمون فاي محاطة بالكاتب مارك هالتر والرئيس جاك شيراك خلال الاحتفالية المخلدة للذكرى الستين لتحرير معتقل أوشفيتز في 27 يناير/كانون الثاني 2005. © Patrick Kovaric


شغلت سيمون فاي طيلة حياتها مناصب عديدة، أبرزها منصب وزيرة في حكومة جاك شيراك خلال ولاية الرئيس الفرنسي السابق فاليري جيسكار ديستان في 1974 ورئيسة البرلمان الأوروبي في 1979، لتدخل في مارس/آذار 2010 الأكاديمية الفرنسية، وعرفت بمواقفها القوية وأفكارها المدافعة عن الإنسانية والعدالة وحقوق المرأة.
تركت سيمون فاي بصماتها على الحياة السياسية الفرنسية، مسيرتها المميزة منحتها شرعية سياسية وتاريخية كان لها أثرها في الداخل الفرنسي والخارج.

استهلت سيمون فاي نضالها مع بداية الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد في 30 مارس/آذار 1940 عندما تم توقيفها، من قبل البوليس النازي "الغستابو" (جهاز مخابرات ألماني أسسه أدولف هتلر من ضباط الشرطة المحترفين) في مدينة نيس الساحلية، جنوب شرق فرنسا. كان اسمها في ذلك الوقت سيمون جاكوب وهي ابنة مهندس معماري من أصول يهودية. تم ترحيلها إلى معسكر الاعتقال الشهير" أوشفيتز" برفقة والدتها وأختها مادلين.

وتروي فاي في كتاب لخصت فيه مسيرتها النضالية قائلة: "الموكب الذي كان يقلنا إلى معسكرات اعتقال بمدينة أوشفيتز توقف على الطريق ليلا. تعرضنا إلى هجمات من قبل عسكريين ألمان والكلاب كانت تنبح بقوة. كانت الرحلة عبارة عن كابوس لغاية وصولنا إلى معسكر الاعتقال".
في الطريق، همست امرأة لسيمون فاي بصوت منخفض وقالت لها: "إذا سألوك قولي بأن عمرك يبلغ 18 سنة". وقبلت الشابة سيمون، التي كان عمرها آنذاك 16 عاما بالنصيحة ورددت بنفس الجواب، الأمر الذي سمح لها بالبقاء مع والدتها وأختها في طابور النساء اللواتي تم اختيارهن من أجل العمل عوض أن تجد نفسها في طابور النساء اللواتي كان النظام النازي يخطط لحرقهن

"عائلتنا دمرت، أختي دونيز وأنا فقط عدنا إلى فرنسا. كنا شابتين وعلينا بناء حياة جديدة"
كتبت سيمون فاي في "حياة"

في 1945، نقلت سيمون فاي ووالدتها وأختها إلى مركز آخر يدعى معتقل "بيرغن بيلسن"، لكن والدتها توفيت فيه إثر إصابتها بمرض "التيفوس". كان الموت أيضا من نصيب أبيها وأخيها في معسكر اعتقال في ليتوانيا. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لم يبق من عائلتها إلا أختين، وتوجب عليها أن تتعلم العيش مثل باقي الناس الذين عانوا من الاعتقالات النازية ومن الظروف الصعبة في المعتقلات.
وقالت فاي في كتابها المعنون "حياة" والصادر في 2009: "عائلتنا دمرت، أختي دونيز وأنا فقط عدنا إلى فرنسا. كنا شابتين وعلينا بناء حياة جديدة".
ناضلت سيمون فاي طيلة حياتها من أجل التعريف بالدور الهام الذي لعبه عدد من النساء والرجال الفرنسيين، لإنقاذ عائلات يهودية من الموت إبان الحرب العالمية الثانية، يطلق عليهم اسم "العادلون".
وفي العام 2000، قلدت منصب الرئيسة الشرفية للمؤسسة من أجل الحفاظ على ذاكرة المحرقة النازية.



قانون فاي

  على منصة البرلمان الفرنسي، خلال تقديمها مشروع قانون الإجهاض في 26 نوفمبر/تشرين الثاني 1974. © أرشيف أ ف ب


بعد نهاية الحرب في 1945 وعودتها إلى باريس، حصلت سيمون فاي على شهادة ليسانس في الحقوق وتزوجت في 1946 أنطوان فاي، فيما قررت ترك مهنتها كمحامية لتنطلق في تجربة جديدة في مجال القضاء.
في العام 1974، دخلت سيمون فاي عالم السياسة وشغلت منصب وزيرة الصحة في حكومة جاك شيراك بعد انتخاب فاليري جيسكار ديستان رئيسا جديدا لفرنسا في نفس السنة.
ولم يختر الرئيس الفرنسي الجديد آنذاك سيمون فاي صدفة بل كان يدرك جيدا موقفها بشأن قضية الإجهاض، وكلفت بتقديم مشروع قانون أمام البرلمان لتشريع الإجهاض الاختياري للنساء الفرنسيات.
وقد ساند جيسكار ديستان موقف سيمون فاي لكن رغم ذلك عارضت الجمعية الوطنية الفرنسية هذا القانون وخرج الآلاف إلى الشوارع للتعبير عن معارضتهم له أيضا.
و لم تقلل المظاهرات والشتائم من عزيمة سيمون فاي، بل تشبثت بالمشروع حتى صادق النواب الفرنسيون العام 1975 في تصويت تاريخي على قانون الإجهاض الذي صار يسمى نسبة إليها (قانون فاي). هذه المعركة التي خرجت منها قوية، منحت لها مكانا في قلوب الفرنسيين طيلة سنوات، حيث اختيرت في 2016 أفضل شخصية نسوية عندهم



التزام أوروبي

  خلال خطاب ألقته في البرلمان الأوروبي بستراسبورغ في 24 يوليو/تموز 1984. © Michel Mochet, أ ف ب


في 19 يوليو/تموز 1979، فاز حزب الاتحاد من أجل الديمقراطية الفرنسية (الوسط) الذي كانت تنتمي إليه سيمون فاي بالانتخابات الأوروبية. وانتخبت بعدها كأول رئيسة للبرلمان الأوروبي العام 1979 وبقيت نائبا في هذا البرلمان حتى العام 1993، وهي السنة التى عادت فيها إلى الحكومة بعد فوز اليمين الفرنسي بالانتخابات التشريعية في عهد الرئيس الراحل فرانسوا ميتران.

استلمت فاي في 1993 منصب وزيرة دولة مكلفة بالشؤون الاجتماعية والصحة وشؤون المدينة. لتكون بذلك أول امرأة تحصل على رتبة وزيرة دولة في فرنسا.
في 1997، عينت سيمون فاي رئيسة للمجلس الأعلى للاندماج بفرنسا ثم عضوا في المجلس الدستوري بين عامي 1998 و 2007. وأعلنت عن مساندتها للمرشح اليميني للانتخابات الرئاسية نيكولا ساركوزي.
لكن رغم دعمها لمرشح اليمين، إلا أن سيمون فاي احتفظت بحريتها في انتقاد كل ما كانت تراه يعادي القيم التي كانت تدافع عنها، كفكرة تأسيس وزارة الهوية الوطنية والهجرة بدلا عن وزارة للهجرة والاندماج في عهد الرئيس ساركوزي (2007-2012). كما عارضت كذلك مشروع تكليف كل تلميذ في الصف الابتدائي في المدارس الفرنسية بذاكرة طفل يهودي قتل خلال المحرقة النازية.

الدخول للأكاديمية الفرنسية

  برفقة ابنها جان فاي بالأكاديمية الفرنسية في 18 مارس/آذار 2010. © François Guillot, أ ف ب


وتعد سيمون فاي المرأة العاشرة التي دخلت الأكاديمية الفرنسية من مجمل 708 أكاديميين دخلوها منذ نشأتها العام 1635. ودخلت فاي هذه الهيئة المرموقة وعلى حافة سيفها الأكاديمي رقم 78651 وهو الرقم الذي كان مرسوما على ذراعها عندما كانت سجينة في معتقل "أوشفيتز" النازي.

وانضمت سيمون فاي إلى نساء دخلن الأكاديمية كمارغريت يورسنار وجاكلين دو رومييه وهيلين كارير دانكوس وفلورانس دولاي وآسيا جبار. وقالت يوم دخولها: "النساء لهن نظرة مغايرة للمجتمع. لذا من المهم أن تكون لهن رؤى عملية وواقعية مقارنة بالرجال".
رحيل سيمون فاي سيترك فراغا كبيرا في الحياة السياسية الفرنسية لكن نضالها سيبقى بمثابة منارة لكل النساء اللواتي يعشقن الحرية ويدافعن عنها وعن القيم الحميدة.